هذه المرة تهب النسمات الرقيقة من العراق .. تسألني .. أي نسمات من العراق تهب ؟.. فالهواء دخان .. والأجواء قتال .. والأهواء نوازع .. أقول لك .. بلل يدك بماء الفرات ثم امسح بها على وجه العراق المترب .. وقلب العراق المتعب .. فسيصفو لك الوجه الجميل ..ولا يبقى من درنه شيء.. وزد مسحاً بالجيد والأعناق .. فسيبزغ لك صوت .. صاحبه خارج العراق .. ولكن قلبه معلق به .. ستسمع ترانيم ما سمعت بمثلها من قبل .. وسيمس القلب منك شجن .. وستتلألأ سبعة أحرف يشع وميضها.. ويومض برقها ..ويبرق رعدها.. ثم ينساب زلالاً .. ثم يهدر شلالاً يتدفق في مجرى الرافدين .. ليلون مياه دجلة والفرات والنيل والمحيطات بلون الثورة والانتفاضة والتمرد .. سبعة أحرف لا تكاد تعرف لصاحبها مثيلاً.. أو شبيهاً .. أو حتى من يكون منه مدانيا.. إنه رجل بشعب كامل .. إنه الثورة والثوار .. إنه الشعلة والوقود والنار .. إنه الطريد الشريد على أرصفة منفاه.. والعراق والعروبة حبه ومبتغاه .. هو الوحيد الحي بيننا الذي لعن ويلعن- بلا خوف ولا رهبة- كل الحكام والملوك الذين أذلوابلادهم وأذاقوا شعوبهم أكؤس الهوان .. هو الرجل الذي لم يتخذ حاكما خليلا ..ولاسلطاناً نديما.. هو الرجل الذي يستمطر على الظالمين من السلاطين قصائد من سجيل .. انتقاماً للشعوب المغلوبة على أمرها .. هو الرجل الذي نثر لافتاته على صفحة السماء لتقرأها كل العيون .. لتستنهض همم الشعب العربي المغبون .. .. نذر عمره كله لقضيته .. صار الوطن همه.. وزوجه .. وأمه .. صارت القصيده عصاه يتوكأ عليها .. ويهش بها على بلاده .. وله فيها مآرب أخرى .. وفي خضم المعركة .. وفي ساح الوغى .. حيث النصال تتكسر على النصال .. تتفجر ينابيع الحنان من قلبه الذي حسبناه حجرا صلدا .. ونفاجأ بالقلب الذي صقلته المعارك .. وأصقلته الحروب .. يسكن في حناياه الحب .. ويقطن في زواياه العشق .. ويقطر من دماه الهيام .. ولكن .. آه من لكن .. اتهم ان قلبه لا يعرف الحب ! كانت إجابة صاحب الأحرف السبعة .. المكونة لاسمه.. الثائر العراقي العظيم .. أحمد مطر .. أجاب بقصيدته (أعرف الحب ولكن ) على سؤال تلقاه على لسان حبيبته .. حبيبته التي جفت شفتاها .. وذبلت روحها .. وغار نهدها .. وماتت انتظارا .. انتظارا للحبيب الذي لا يجيئ .. ولشاعرها الذي أعدت القلب له مهدا .. ومن الحب دثارا.. وتأملت مرارا .. وتألمت مرارا .. فإذا بها تجد نبضه إطلاق رصاص وأغانيه عويل وأحاسيسه قتلى وأمانيه محبوسة وسجينة وأسيرة .. فاتهمته أنه لا يعرف ما الحب ..وأنها عبثا تموت انتظارا... بماذا يجيب الثائر؟ .. بماذا يدافع عن نفسه الشاعر ؟ إنني أدعو شعراء هذه الأيام الذين ابتلينا بهم يسوقون لنا الطلاسم .. ويروجون لنا الأحاجي .. ويمطرون أعيننا بالقميء من التراكيب الشاذة والمعاني الهلامية والألفاظ المتنافرة والأحرف المتحافرة .. أدعوهم قبل غيرهم إلى الانصات والتأمل .. ثم التبحر .. ثم الذوبان في جمال التصوير.. وروعة اللفظ .. وبدائع التعبير.. وحلاوة المذاق.. وصدق التجربة الشعورية .. وليتعلموا ولنتعلم معهم على يد هذا العملاق الثائر .. ومن أحرف هذا المارد الشاعر .. نعرض اليوم للشاعر العراقي أحمد مطر في رائعته " أعرف الحب ولكن " تلك القصيدة التي لا تحتاج أبداً لأن أنقص من روعتها بشيء من الشرح .. فهي تشرح نفسها قبل أن تشرح قلوبنا.. .. وإليكم القصيدة : هتَــفتْ بي : إنّني مِتُّ انتظارا. شَـفَتي جَـفَّتْ وروحي ذَبَـلتْ والنَهْـدُ غارا. وبغاباتي جـراحٌ لا تـُدواى وبصحرائي لهيـبٌ لا يُـدارى فمتى ياشاعري تُطفِئُ صحرائي احتراقا ً؟ ومتى تَدْمـَلُ غاباتي انفجارا ؟! إنـّني أعددتُ قلبي لك مَهـْداً ومن الحُبِ دِثــارا. وتـأمـَّلت مِـرارا وتألَّمتُ مِـرارا فإذا نبضُكَ إطلاق رصاصٍ وأغانيك عويلٌ وأحاسيسك قتلى وأمانيـك أُسارى ! وإذا أنت بقايا من رمادٍ وشظايا تعصِفُ الريح بها عصفاً وتذروها نثارا . أنت لا تعرف ما الحبُّ وإني عبثاً مِـتُّ انتظارا . رحمةُ الله على قلبِكِ يا أنثى ولا أُبـدى اعتذارا . أعرفُ الحب .. ولكن لم أكن أملك في الأمر اختيارا . كان طوفانُ الأسى يهدرُ في صدري وكان الحبُّ نارا فتوارى ! كان شمساً.. واختفى لما طوى الليلُ النهارا . كان عصفوراً يُغـني فوق أهدابي فلما أقبلَ الصياد طارا ! آه لو لم يُطـلق الحكامُ في جلدي كلاباً تتبارى آه لو لم يملأوا مجرى دمي زيتاً , وأنفاسي غبارا آه لو لم يزرعوا الدمع جواسيسَ على عيـني بعيـني ويقيموا حاجزاً بيني وبيني آه لو لم يُطبـقوا حولي الحِصارا ولو احتـلْتُ على النفس فجاريت الصغارا وتناسيتُ الصغارا لتنـزَّلتُ بأشعاري على وجـدِ الحيارى مثلما ينحَـلُّ غيـمٌ في الصحارى ولأغمـدتُ يَـراعَ السِّـحرِ في السـِّحرِ وفي الثغـرِ وفي الصَـدرِ وفي كل بقـاع البرد والحـرِ وهيج جنون الرغبات الحُمـرِ حتى تُصبح العِفةُ عارا ! ولأشعلتُ البِحارا ولأنطقتُ الحِجارا ولخبأتُ " امرأُ القيسِ" بجيبي ولألغيتُ "نزارا" ! آه لو لم يُطِبقوا حولي الحِصارا ولو استمرأتُ أن أُطـلقَ للنفسِ العِـذارا لاستفـزَّت شفتاي الكَـرَز الدامـي ولزادتهُ ارتواءً ولزادته احمرارا ولأرسلتُ يـدي تَـرعى.. فتـُخفى ما بـَدا , هَصْـراً , وتبـدي ما تـَوارى ولأيقظتُ السـُّكون العـذْبَ في غابـاتهِنّ البكـرِ عصـفاً واستـِعارا ولأرقصتُ القِـفارا ولألقيـتُ على خُلـجانِهِـنَ المـوجَ حـراً مُستـثَارا فيُصارعـنَ اختنـاقـاً ويُصارعـنَ انبهارا ثم يستلقيـنَ تحت الزبـَدِ الطـاغي يُغالبـنَ الـدوارا ! أعرفُ الحـبَّ أنا لكن حـبي ماتَ مشنـوقاً على حبـل شراييـني بزنزانةِ قلبي ! لا تظني أنه ماتَ انتحارا . لا تظني أنه داليةٌ جفت فلم تطـرَح ثمـارا . لاتظني أنه حبٌ كسيـح لو بـه جهـدٌ على المشي لسـارا . لا تظني واصفحي عنه وعني . أنا داعبتُ على المسرح أوتاري وأنشأتُ أُغنِّـي غيـر أنـِّي لم أكـدْ أبدأ حتى أطلقـوا عشـرينِ كلبـاً خلف لحـني تملأُ المسرحَ عقراً ونباحـاً وسعـارا وأنا الراكض من ركـن لركـن لي قلبٌ واحـدٌ عاثَ به العَقْــر دَمَـارا . فأنا أعـزفُ دمعاً وأنا أشـدو دمـاءً وأنا أحيـا احتضـارا وأنا في سـكرتي .. لا وقت عندي كي أغني للسـكارى ! فاعذريني إن أنا أطفـأت أنغـامي وأسدلتُ الستـارا ... أنا لا أمـلك قلبـاً مستعـارا ! |
طباعة الموضوع حفــظ الموضوع المفضلـة أرسل المــوضوع Face Book أبلغ عن إساءة |
| ||||||||
| ||||||||
| ||||||||
| ||||||||
| ||||||||
| ||||||||
| ||||||||
| ||||||||
| ||||||||
| ||||||||
| ||||||||
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق