الحال ضاق .. والعيشة صارت صعبة .. والاسرائيلية بيسكروا حتى الهواء .. إيش العمل قالتها الزوجة الحزينة البائسة وهي ترى أولادها يتضورن جوعاً من شظف العيش والبطالة وقلة ذات اليد .. قال زوجها .. أخي قد حدثني عن سيارة طرف فلان وطلب مني أن أذهب إليه وأشتريها منه بناتج عملي عليها وقد قبل الرجل لعلاقته الطيبة بشقيقي وها أنذا متوجه إليه لعل الله يعقب فرجاً .. خذني معك يا أبي .. قالها الطفل محمد الدرة لوالده.. ابتسم والده قائلاً .. وجهك دائماً وجه الخير يامحمد .. تعال يابني قلت الأم .. لا تتأخرا .. وفقكم الله وضع محمد يده الصغيرة في كف والده وانطلق وهو يتخيل أطفال المنطقة يتطلعون إليه جالساً مختالاً في السيارة بجوار والده .. ويتخيل نظرات الفرحة في عين والدته وهي مقبلة تعاين السيارة .. ويتخيل أخوته وهم يتقافزون من حول السيارة ويقفزون فوقها وهو جالس في مكانه لا يبرحه سعيداً منتشياً .. انقطعت خيالات محمد الذي لم ينسدل ستار عامه الحادي عشر بعد .. صوت دوريات الصهاينة يهدر .. لم يأبه .. فقد اعتادها هو وأبوه .. حيث ينتشر الصهاينة في الشوارع وفي الطرقات وينغرسون في جدران البيوت و فوق أسطح المنازل ويحلقون بطوافاتهم وكشافاتها عليهم آناء الليل وبصواريخها أطراف النهار .. ويتداخلون بأجهزة التنصت والتشويش على أحلامهم .. ويخضعونهم في الطرقات وفي الكمائن وبين الحواجز والمتاريس لتفتيشات تنبعج أجساد الفلسطينيين من كثرة عبث الأيدي الخشنة بها بحثا عن فكرة أو خاطرة أو شعور بالغضب يراه الصهيوني خطراً لا بد من تصفيته بتصفية جسد صاحبه .. ومع ذلك فقد تأقلم الفلسطينيون مع الجحيم الذي صار جزء منم حياتهم حتى لم يعودوا يشعرون به جحيماً بل يسخرون منه وأحياناً يلاعبونه بتغيير شفرات مشاعرهم لتدويخ أعين وأجهزة الصهاينة وإبقائهم في حالة تأهب مستمر .. لم يأبه محمد الدرة ووالده لأنهما كانا يسيران وحدهما أعزلين ليس معهما إلا أمنيات بأن يجدا السيارة في حالة صالحة وجيدة .. انتحيا جانبا حتى تمر سيارات الدورية العابرة المزمجرة إلا أن كل شيء انقلب في لحظة واحدة .. انقلبت السيارات إلى راجمات لهب وأفرغت من جوفها شياطين يرتدي كل منهم متحفاً من العتاد والمعدات والأجهزة والأسلحة كمثل الأفلام الأمريكية التي يشاهدها محمد الدرة ل : رامبو .. وشوارزنجر.. وألعاب البلايستيشن .. وفجأة انتصبت حلبة المعركة الوهمية التي اختار الشياطين ملعبها وخصومها وجمهورها ووقتها .. اختاروا كل شيء وكأنه أحد الأفلام الأمريكية ودون سبب أو دون حتى مثير يستحق .. انطلقت زخات الرصاص تمرق في كل مكان منطلقة من جانب واحد فقط هو جانب الشياطين .. لا يقابلها شيء .. لا يماثلها شيء.. لا يصدها شيىء .. وفجأة بدأت الأجساد العارية إلا من ملابسها الخالية إلا من صرخاتها وفزعها بدأت تجري يمنة ويسرة تلوذ بحائط أو بساتر يقيها من زخات الموت وطلقات الحقد التي انطلقت كمثل ألسنة نيران يخرجها فحيح أفواه الشياطين .. أحيط بمحمد الدرة ووالده .. أسرعا إلى جدار حائط يحتمان به .. رأى الأب برميلاً على بعد أربعة خطوات منه .. أراد أن يلوذ به هو وابنه الصغير .. كانت أصعب وأبعد وأخطر وأشق مسافة في حياته .. تلكم الأربعة خطوات التي تبعده عن برميل رأى فيه الحياة كل الحياة والنجاة كل النجاة .. لم يستطع أن يخطوها .. فقد اتضح له أن حساباته خاطئة .. إنه وابنه قد انتصبت لهما ساحة إعدام بالفعل .. الجدار خلفهما مانعاً .. وأمامهما كتيبة من الجنود الصناديد العتاة أثار مشهد الدرة وابنه الطفل الصغير كل مكامن اللذة والشهوة الإجرامية .. منظر الرجل وابنه وفزعهما ورعبهما وكأنهما كمثل فأر دخل المصيدة .. وهم يتلذذون برؤية آثار الذعر والفزع في أعينهما وتمنيات النجاة .. كانت كتبية المجرمين على بعد عشرة أمتار قد تزيد قليلاً .. وفوهات أسلحتهم مصوبة إلى الأحد عشر عاماً عمر الصغير محمد الدرة .. وفوهات أسلحتهم موجهة إلى حلم أبيه بأن يعيش مستوراً .. وفوهات أسلحتهم مصوبة على خيالات الطفل محمد الدرة وأحلامه بأن يراه الأطفال جالساً في السيارة بجوار والده .. انطلق زخات الطلقات تضرب الجدار من فوق الأب وابنه زيادة في اللذة وإمعانا في التلذذ .. والأب المروع الواهن الجسد يضم ابنه إليه بذراعه العارية يحميه من طلقات الرصاص المصوبة إليهما . وذعر الطفولة وفزع البراءة وصرخات الابن الصغير يلتمس من أبيه الحماية .. يلوذ جسده الصغير بجسد أبيه يتلمس فيه النجاة والأمان .. بال الصغير على نفسه .. التصق بجسد والده النحيف .. أخيراً مل الشياطين اللعبة وأرادوا إنهاءها.. فصوبوا أسلحتهم وتسابقوا على ضرب الصيد الثمين .. ضربوا الطفل في قلبه .. فمال على صدر والده .. والده الذي أصابته زخات الرصاص وما شعر بها .. فقط شعر بميل رأس ابنه الصغير على صدره وسكونه وسكوته وصمته .. فصمت الأب .. وتدلى رأسه على صدره .. هنا سحب المجرمون أسلحتهم .. فقد انتهوا من الصيد .. وهنأوا بعضهم البعض.. وتنافسوا على أيهم الذي قتل الطفل وأيهم الذي أصابه في قلبه والذي أصابه في رأسه والذي أصابه في يده .. وأي طلقاتهم التي كانت هي القاتلة .. كانت عدسة أحد مصوري جريدة فرنسية تتابع الحدث عن قرب (دون أن يشعر الشياطين ) وانطلقت الصور الحية لعملية الإعدام للطفل محمد الدرة وتطايرت عبر الفضائيات إلى كل بقعة من بقاع العالم .. مشاهد حية أبكت عيون أشد الرجال صرامة .. مشاهد تمزقت لمرآها قلوب كل أمت ذات رحم ذاقت طعم الأمومة وعرفت معنى الطفولة .. مشاهد حركت الجبال الراوسي من مرابضها .. واهتز لها عرش الرحمن .. بينما لم يهتز لها قلب الأمريكان مثلما لم يرمش لها جفن الشياطين المجرمين ومن والاهم ومن حاباهم ومن جاملهم .. جثمانه الطاهر .. الظاهر .. مسجى على محفة .. إلى مثواه الأخير حملته أكتاف .. حملته أجساد .. حملته قلوب كل شباب الأمة برجالها وأطفالها ونسائها وشيوخها .. وشيعته أنهار الدموع . والجوى يشق الضلوع .. ستبقى مشاهد مذبحة الطفل محمد الدرة والتي توثقت بتصوير أحداثها لحظة بلحظة .. ستبقى شاهدة على ضمير ذلك العالم الحر .. ضمير تلك المدنية الحديثة .. ضمير أصحاب الحضارة والثقافة والعلم والعلمانية .. ستبقى شاهدة على زيفهم .. على كذبهم .. على وجوههم النتنة التي تغطيها مساحيق التجمل .. ستبقى شاهدة على قلوبهم العفنة التي ما ضخت يوماً دماء .. بل ضخت دوماً في شرايينهم حقدا وبغضا وكراهية لكل ما عداهم ولكل من عداهم .. إن نسيتم .. فإننا لم ننسى .. ولن ننسى .. آه .. نسيت أن أقول والد محمد الدرة قد كتب له الله النجاة .. ورزق الأب والأم بمولود سمياه (محمد الدرة ) الجديد .. ورزقت فلسطين بمئات الألوف من محمد الدرة وإيمان حجو وغيرهما من زهرات الوطن الذين سوف يتحقق على أيديهم (حتماً) الوعد الإلهي .. عارفين الوعد الإلهي؟؟ عارفينه ؟ نحن لم ننساه شالوم |
طباعة الموضوع حفــظ الموضوع المفضلـة أرسل المــوضوع Face Book أبلغ عن إساءة |
| ||||||||
| ||||||||
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق